الشيخ القاضي العلامة محمد بن شامس بن خنجر البطاشي -رحمه الله تعالى- الذي وُلد ببلدة المسفاة بولاية قريات في الثاني من شهر صفر الخير سنة 1330هـ، توفي والده وهو في المهد رضيع لم يتجاوز عمره الأربعة أشهر، وقد عوضه الله عن حرمانه من العطف الأبوي بالحنان الدافق واللمسة الحانية من أمه التي كانت له الأب والأم، ترعاه كما ترعى إخوته الآخرين، ولهذا كانت أمه أول راع ومؤدِّب له، كما كان لأخيه عُدي بن شامس الذي يكبره باثنتي عشرة سنة دور بارز في سنيِّه الأولى؛ فقد تولى قسطًا من تنشئته وتعليمه، ولا ننسى أخاه أحمد بن شامس الذي أشرف على تعليمه، بل كان هو معلمه الأول.
وكانت البيئة التي اكتنفت طفولة الشيخ محمد عاملا مساعدا في تحصيله العلمي؛ إذ لقي من أقاربه الحثَّ والتشجيع الدائم؛ فبدأ الشيخ بالقرآن الكريم فأتمَّ حفظه في الثامنة من عمره، ثم أخذ في كتابة الخط والمطالعة والقراءة، فقرأ في كتب الفقه والتاريخ والأدب، والأنساب ودواوين العرب؛ فحفظ منها الكثير مما وسَّع مداركه، كلُّ هذا في سنيِّه الأولى، ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره ارتحلَ إلى نزوى ليدرس بالمدرسة الخليلية؛ حيث الإمام الرضي العادل محمد بن عبدالله الخليلي -رحمه الله- الذي تُضرب إلى مدرسته أكباد الإبل، وتُحط الرحال في حماه.
وفي بيضة الإسلام - نزوى - ، وجد الشيخ البطاشي ما يروي ظمأه من العلم والمعرفة؛ حيث القضاة والعلماء والمربين المخلصين، فكان -رحمه الله- من طلاب الإمام المجيدين؛ فقد أعجب به الإمام وبذكائه وفطنته؛ فصار يجله ويقدمه على أقرانه، ورغم أن نشأته كانت في بلدة المسفاة وكانت بعيدة عن مركز العلم - التي هي نزوى - إلا أنه تجاهد في التعليم وسافر إلى تلك المدينة وأقام فيها وكان يدرس سنة كاملة ثم يعود لبضعة أشهر إلى بلدته المسفاة.
ولم يكتف -رحمه الله- بما يسمعه من أساتذته، بل عمد إلى شراء كتاب يكون له موردا ومرجعا في رحلته العلمية، وخلال إقامته في مدينة نزوى اشترى كتاب "شرح النيل" للقطب الذي قرأه وحفظ مسائله وأحبَّه؛ لأنه شرح وافٍ للأصول والفروع والمسائل الفقهية.
وقد تتلمذ الشيخ البطاشي على مجموعة من العلماء، ومنهم:
1- الشيخ النحوي/ أحمد بن شامس بن خنجر البطاشي، وحفظ الشيخ البطاشي على يديه القرآن، وتعلم، ثم أخذ يقرأ التلقين...وغيرها من الكتب.
2- الشيخ النحوي/ حامد بن ناصر النزوي، درس على يديه النحو والصرف والمعاني والبيان والأدب عامة.
3- الشيخ العالم/ عبدالله بن عامر العزري، أخذ عنه الشيخ البطاشي الفقه وأصول الدين والتفسير والحديث وعلم الكلام.
4- الشيخ العلامة/ سعيد بن ناصر الكندي.
5- الشيخ العلامة/ عامر بن خميس المالكي.
6- الشيخ العلامة الإمام/ محمد بن عبدالله الخليلي، أفاد الشيخ البطاشي من الإمام من خلال مجالسته له؛ فقد كان من الوافدين على مدرسة الإمام الخليلي، وكان يسكن بسكن الطلاب في الحصن والإمام قريب منهم.
... إنَّ الشيخ محمد على كثرة أشغاله لم يكن ذلك عائقا له عن التأليف، بل أغنى المكتبة الإسلامية بمجموعة من الكتب القيِّمة، قال عنه صاحب "شقائق النعمان": "وقد استطاع أن ينفع المسلمين بالتأليف لأهليته، ولأنه راسخ القدم، طويل الباع في العلوم، ذو ملكة فيها، وذو اقتدار على النظم فضلا عن النثر...". وبعض هذه الكتب لم تر النور بعد؛ ليستفيد منها القارئ والباحث وكل طالب علم، بل إنَّ بعضها لم يتمه الشيخ لكثرة أشغاله، وقد تنوعت تآليف الشيخ محمد بين الفقه والأصول وأصول الدين والنحو والصرف والأدب والتأريخ والسير...وغيرها.
ومن تأليفه:
أ- سلاسل الذهب في الأصول والفروع والأدب؛ وهو من أبرز كتبه وأظهرها على الساحة العلمية، وهو عبارة عن نظم لكتاب "شرح النيل" لقطب الأئمة، وعلى الرغم من كون الكتاب نظما لـ"شرح النيل" غير أن الشيخ محمد البطاشي كان يبرز رأيه في كثير من المسائل، يقع هذا الكتاب في عشرة مجلدات، وعدد أبياته مائة وأربعة وعشرون ألف بيت من الشعر، من بحر الرجز؛ استغرق في نظمه ثلاث سنوات؛ فقد بدأه سنة 1382هـ وأتمه سنة 1385هـ وهو بذلك يُعد أكبر ديوان شعر في تأريخ الإسلام كله والحمد لله رب العالمين.
ب- غاية المأمول في الفروع والأصول؛ وهو كتاب قيِّم في الفقه وأصوله وأصول الدين، يقع في تسعة أجزاء؛ ذكر فيه أبواب العبادات والمعاملات.
ج- إرشاد الحائر في أحكام الحاج والزائر؛ جمع فيه مسائل الحج والعمرة والأحكام المتعلقة بهما وما يحتاج إليه الحاج وقاصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
د- كشف الإصابة في اختلاف الصاحبة؛ يبحث في اختلاف الصحابة إثر مقتل عثمان بن عفان، ومبايعة علي بن أبي طالب، وما صاحب ذلك من حُروب وفتن.
هـ- تحفة الأصحاب على ملحة الإعراب؛ منظومة في النحو والصرف، اختصر فيها ملحة الإعراب للحريري وقد شرحها الشيخ اللزامي رحمه الله.
و- نبذة عن ولاية قريات، تكلم فيها عن قريات، وعن أهم قراها وبلدانها، وذكر العلماء الذين تخرجوا منها، وقادتها، ورجالها، والأبراج، والحصون.
ز- رسالة في صلاة الجمعة؛ تحدَّث فيها عن بعض مسائل الخلاف في صلاة الجمعة؛ من نحو: موضع إقامتها، وشروط وجوبها.
ح- مجموعة جوابات؛ جوابات لما يرد من سؤالات من العامة والخاصة، وكثير من هذه الجوابات شعر، وعسى أن تجمع في كتاب مستقل بإذن الله.
وفاته:
يقول الشيخ حارث بن محمد عن والده: "قبل وفاته بيومين، رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المنام يبتسمُ له، ويسلمه مفتاح بيته في الجنة؛ فاستبشر بها الوالد خيرا، فلما كان اليوم الذي بعده سمعته يؤذن بالمسجد، وما سمعته أذن قبل ذلك اليوم، وكان آخر يوم من رمضان، وفي صبيحة يوم العيد غرَّة شوال سنة 1420هـ /2000م خرج بالناس للصلاة فأمهم ثم أمرني بالخطبة وأخذ يسار المحراب، ولم تمضِ دقائق إلا وسقط على الأرض، وقد غادرتْ روحه جسده، وعلى وضوئه، وفي محراب صلاته، وأمام يدي ربه".